أحب التفرس في الوجوه، والرهان على النفوس. أمر تعلمته من أبي.
زارني أبي في الغربة، و أخذته لمطعم هندي. قدم لنا الجرسون قائمة الطعام. ثم أتى خادم يسكب لنا الماء. كان أبي يقرأ القائمة عندما دخلت يدٌ مجاله البصري، لتسكب الماء. التفت أبي إلى وجه الخادم برتابة، ثم نظر إلى قائمة الطعام، قبل أن ترتد عيناه بسرعة إلى وجه الخادم، الذي أنهى سكب الماء و غادرنا تاركا عيني أبي معلقة به!
بعدما أخذ الجرسون طلبنا. شرب أبي كأس الماء سريعا، كي يعود الخادم لملئ الكأس:
– هل أنت من التبت؟
لم يصدق الخادم كيف عرف أبي أن أمه من التبت.
كان أشهى ما في ذاك العشاء لوالدي، قصة حياة الخادم: منذ أن تزوجت أمه التبتية رجلا من الهند، إلى وصوله للعمل في كندا.
حينما سألت والدي كيف خمن أن رهانه سيصيب من أول سؤال. أخبرني أن الخادم هو الوحيد الذي يحمل سحنة صينية في مطعم كل عماله هنود. فحتما سيأتي من بلاد تقع في الحد الفاصل بين الصين و الهند، كالتبت.
أحب التفرس في الوجوه، و الرهان على النفوس. و تدهشني الفسيفساء البشرية التي خلقت من حمأ و طين.
رغم أن زميلنا كان من عائلة صينية لجأت إلى كندا لجوءا سياسيا منذ أن كان في الابتدائية، إلا أنه كان كثير الحديث عن صينيته باعتزاز. و عن الأشياء التي يذكرها من طفولته هناك، و العادات الصينية التي لا زال أبوه يحضه على التمسك بها. كانت الفترة التدريبية التي قضيناها سوية، عبارة عن هيئة أمم متحدة صغيرة: هو من الصين، أنا من السعودية، أحدهم كندي ذو أصول أيرلندية، إحداهن من إيطاليا، واحدة كولومبية، و أخرى من مقاطعة “أندلسية” بإسبانيا (ومتزوجة من أردني بالمناسبة). مرة، جلب أحدهم طبق أجبان متنوعة و مكسرات و فواكه مجففة للجميع. و كان زميلنا يلتهم بشراهة أصناف الجبن الموزعة على الطبق. كنت أرمقه بابتسامة خفيفة:
– يبدو أنك لست صينيا بالدرجة التي تزعم؟
ضحك بخجل من شراهته و هو يتلعثم بقطع الجبن:
– بالفعل! أخوالي من المغول.
– هذا يفسر الكثير.
التفتت لي زميلتنا الإيطالية مندهشة و على وجهها علامات الاستفهام.
قلت لها أن النظام الغذائي الصيني خالي من مشتقات الحليب، فغالبية الصينين يتحسسون من اللاكتوز. أما المغول، فمن الأساطير الشعبية المشهورة عنهم أنهم يشربون حليب الخيول، و هم لا يتورعون عن شرب الحليب و مشتقاته. و كان زميلنا الصيني يهز رأسه بإقرار من انكشف سره.
أحب التفرس في الوجوه، و الإنصات لاختلاف الألسن، و الرهان على النفوس.
من متعي في الحياة، الجلوس مغمض العين على مقعد في التايمز سكوير بنيويورك، أو ميدان بيكادللي بلندن، أو باحة مارين بلاتز بميونيخ، و تمييز اللغات التي أسمعها و لا أفهمها، بهوس مراقبي الطيور الذين يميزون نوع العصفور من تغريده، و إن لم يفهموه.
أذكر أنني كنت أحدث زميلي بالعربية و نحن ننتظر لنطلب من ستاربكس في مونتريال. حينما طلبنا و دفعت للباريستا عشرين دولارا منتظرا ما تبقى، قال:
– أية لغة تتكلمان؟
قلت له:
– خمن و لك ما تبقى بخشيشا.
و حينما بدأ يفكر. باغته قبل أن يجيب:
– لحظة. لنجعل ذلك مثيرا أكثر. إن أخطأت في تخمينك. سأخمن أنا من لكنتك بالانجليزية، من أي البلدان أنت. فإن أخطأت أنت و أصبت أنا، أخذنا القهوة مجانا. و إن حصل أي سيناريو غير ذلك، فلك البخشيش.
وبعد أن تصافحنا على رهاننا، خمّن تخمينا خاطئا (ما عدت أذكره). ثم قلت له:
– أنت من جامايكا.
وقد كانت له لكنة “بوب مارلية” لا تخطئها إذن تسمع أغاني الريغي!
من فائض القول أنني لم آخذ القهوة مجانا، و لم أحرمه من البخشيش، فنشوة إصابة تخميني و ملامح الدهشة على وجهه، كانتا كافيتين لأتنازل عن الرهان بكل غبطة.
للأصوات سحنة لا تخطئها الآذان حينما تألفها، كما تألف العيون سحنات الوجوه.
في ضجيج كافيتيريا الجامعة بالرياض، باحثا عن مكان أجلس فيه على طاولاتها الممتدة، كانت تقودني أذناي إلى أحاديث تبدو -لأول وهلة- قراءة لمخطوطة خلدونية. فأجد نفسي بجانب دارسي العربية و الدين من السنغاليين و النيجيريين (أفريقيا الغربية عموما)، و أطرب لأصواتهم الرخيمة و الجهورية و هم يجعلون نهايات الكَلِم تتتراقص كسرا و نصبا و رفعا، كأنها أقدام راقصة باليه لا تمل و لا تسكن عن الحركة!
مرت السنون، و وجدتني أنفض المطر عن مظلتي و أنا أسأل رجل الأمن في ثكنته، إن كنت قد أتيت مبكرا على موعد فتح السفارة السعودية بأوتاوا. كنت قد بدأت ذلك بالسلام، فلا يليق بمن يحرس سفارتنا، مهما كان جنسه و لغته، إلا أن يجيد الرد على السلام. كان يجيد رد السلام بأحسن منه بفصاحة رخيمة و جهورية، أما ما تلا ذلك فكان يجيبني عليه بإنجليزية مكبلة بلكنة فرنسية. فسألته بعد أن بدا لي سلامه مثل سحنة مألوفة:
– هل أنت من مالي؟
و يا لدهشتي و دهشته لما أصاب تخميني الذي رميته كنرد!
ثم قضينا النصف الساعة المتبقية على فتح السفارة في ثكنته نشرب الشاي الذي يعده، و هو يحدثني عن حلمه بزيارة مكة، و أحدثه عن حلمي بزيارة تمبكتو و مساجدها و مكتباتها.
أحب التفرس في الوجوه، و الرهان على النفوس، أمر تعلمته من أبي، و لم يتعلمه بعد أخي الأصغر. فتعداد الوجوه بتعداد حبات الرمل. أولسنا نأتي من الرمل، و للرمل نعود؟!
من يعاين ذلك لأول مرة، يشعر أحيانا أنه يتوه في أحقاف من الوجوه. رافق أخي والدي برحلة للهند، و تعجب من اقتفاء والدي طريقه بين حشود نيودلهي نحو رجل بعينه، بينما يتسمر أخي تيها بين حشودها. و كيف لا يتوه و هو يرى في ربع ساعة مليون وجه يعبرون أمام وعيه!
أظن أنني أعرف امرأة، كالذي يرى في كل يوم مليون وجه، لا يألف الوجوه. لخمس سنوات كان عملي يتقاطع أحيانا مع السيدة “تي”. كانت طبيبة ذات شعر أسود أجعد، و ملامح أشكنازية يهودية متغضنة كالتي تراها في نيويورك، حتى أنك تظن أنها إذا أوشكت أن تفتح فاها لتكلمك، ستخاطبك بلهجة و عصابية “وودي آلان”، فتتعجب إن لم تفعل!
كنت أرى على وجهها ملامح الحيرة كل مرة أكلمها، و كأنها تحسب في رأسها، موقعي من النسق.
ذات مرة واجهتها: لم تتصرف و كأنها لا تعرفني؟!
قالت أنها ممن يعانون من قصر التعرف على الوجوه. أولئك الذين لا يألفون الوجوه قط، و لا يميزون حتى وجوه أبنائهم إلا من النسق، كأطوالهم و طباعهم. (لا زلت أرتاب في مقولة السيدة تي، لم أكن إلا ناشزا على النسق هناك مثل الأصداف البحرية التي أجدها أحيانا في الجبال النجدية. كما أن فرصة أن تكون السيدة تي مصابة بذاك، أدنى من فرصة تعرفي على وجه مألوف بين مليون وجه في مدينة غريبة. خصوصا إذا أدركنا أن عمل السيدة تي يتطلب التفرس في الوجوه، و قراءة ما إن كانت مقبلة أو مودّعة!).
ليست الوجوه كل الشيء، أحيانا التفرس في النسق أهم.
رأيت مرة رجلا ملثما و متدثرا بالملابس الواقية يتدلى من حبل لمسح الزجاج الخارجي للمبنى الذي أعمل به.
من عملي أستطيع رؤية ملعب الملك فهد بأشرعته البيضاء المنصوبة، وسط الصحراء وحيدا، كأنه إقحوانة قررت أن تتفتح قبل أن يدخل الربيع. و في منتهى الدهليز الذي أقف به مع زملاء العمل، شخصت عيناي مفتونة بماسح الزجاج متدليا من ارتفاع، بينما كانت إحداهن تشيح بنظرها عنه:
– لا أتخيل أن أعمل بهذا العمل. أنا أخشى المرتفعات.
قلت:
– لذلك أكثر من يعمل بهذه المهنة من النيبال.
توقفت عن النظر لمنتهى الدهليز، ونظرت لها حين انتبهت أنها تطلب تكملة لمقولتي المعلقة:
– لأنها ديار الهمالايا، فاشتهروا بمهنة العمل في المباني العالية حول العالم. لكن بالطبع لا يمكننا التحقق من هوية ماسح الزجاج.
في منتهى الدهليز، رأيت ماسح الزجاج الملثم و المتدثر يتدلى برشاقة فاتنة. رأيته شرنقة معلقة بخيط حرير تهبط نحو الملعب المتفتح كأقحوانة في الخلاء. أما هو، فكي يقاوم رعب المرتفعات وهو يهبط لعمله، يرى الملعب زهرة لوتس في بحيرة بسفح الهمالايا، و ما أن يهبط إليها سيتحرر من عتاده و يصبح فراشة تحلق إلى بلاده.
بعد ساعة، وفي طريقي إلى مكتبي، و جدت بأحد الممرات الطويلة ماسح الزجاج ماشيا عكسي، يخلع قفازاته فخوذته ثم لثامه، ليكشف عن وجه يليق بأن يكون من أحفاد تينسينغ نورغاي!
وجدت خطواتي تقترب منه، و في صدري سؤال معلق، يتدلى من خيط حريري.
طارق الجارد، ١٦ يناير ٢٠٢١م، الرياض

تينسينغ نورغاي. أول نيبالي وثق صعوده لقمة إيفريست بالهمالايا.

ملعب الملك فهد.

زهور اللوتس، في بركة نيبالية.
منتهى:
{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}
سورة الحجرات، آية ١٨.