محمد مالكي، ذو الحظ التعيس، الذي يتوسط جبهته خسف. عن قرب، و عن قرب فقط، أرى الخسف الكبير، لو امتلأ بقطرات العرق، بحيرةً تسمح للبط المهاجر بالراحة. لكن البط لن يلمح الخسف من علو، و مالكي لا يعرق أبدا. يقول أنه لم يعرق منذ أن رفسه البغل في جبهته.
يمكن تلخيص حياة مالكي بسلسلة من الرفسات. على الأقل هو يتذكرها كذلك، فأول ذكرى له بدأت مع رفسة البغل التي شجّت جبهته في نواحي شيراز، قريبا من بحيرة مهارلو الموسمية. في تلك الأيام، لم يكن حول قريتهم طبيب، و لا يملك أبوه سوى أجرة غازل السجاد. خاط غازل السجاد جبهة مالكي المشجوجة، دون أن يرفع الخسف. لكنه أخفاه داخل منمنمة فارسية، تخفي الخسف في الشج، فلا ينكشف السحر إلا حينما تنظر إلى أثر الخيوط عن قرب. وهكذا كان مالكي، رغم الشج الذي يعلو حاجبيه، وضّاء الجبهة، لا ينافسها في ذلك إلا ابتسامته. أما إصبعه الوسطى المبتورة، فلا علاقة لها بتلك الرفسة، و لم ألاحظها حتى رأيته يرتدي القفازات في غرفة العمليات.
الرفسة الأخرى التي عرفت عنها، تلقاها في مونتريال. فحينما أنهى مالكي الطب من جامعة طهران، حصلت له فرصة الابتعاث إلى كندا. إن أمرا أكبر من يسراه ذات الوسطى المبتورة، كاد أن يبتر تدريبه في الجراحة. ففي منتصف تدريبه، قامت الثورة على الشاه، والزلزال الذي حصل في طهران وصلت ارتداداته لمونتريال. بُترت بعثته، و ما عاد يأمن العودة إلى بلاده. صارت حياته معلقة في الفضاء مثل طائرة الشاه، لا تعرف أين تهبط. إلا أن مالكي، ذا الجبهة الوضاءة و المتدرب المميز، قد شفعت له تلك الخصال. أشفق عليه أحد أساتذته و احتواه تحت جناه، فوفر له منحة و ساعده في الحصول على لجوء دائم في كندا، بينما كان الشاه يتقلب في أصقاع الدنيا، حتى قال عن حلفائه السابقين: “رموني كالفأر!”، قبل أن يفنى بالسرطان.
لا أحد يعرف سر الإصبع المبتورة إلا مالكي، و لم يخبرني عنها أحد قبلا، فتلك رفسة لا يتكلم عنها. أول مرة لاحظتها، لما علمني كيف أنثر عقد خيوط الجراحة بالأصابع وراء بعضها، حتى تصبح ظفيرة من صلب لا يمكن فكها. كان مالكي يناور بأصابعه بسرعة هائلة، بينما خواء القفاز في وسطاه المبتورة، يتطوح مثل قربة ملاكمة تتلقى ضربات محمد علي كلاي.
مالكي صاحب أسرع يدين في الغرب المتوحش. و منذ أن علمني شيئا من سرعته، صار وقت إغلاق الجرح في عملياته مليئا بالتوتر الذي يسبق الصراع بين الأخيار و الأشرار في أفلام الكاوبوي. فبمجرد أن يطلب “الشريف: مالكي” خيوط الجراحة، و تفتح الممرضة درفتي باب غرفة العمليات معلنة وصولها، نبدأ أنا و مالكي بنثر العقد من أصابعنا كتناثر الرصاص من مزلاج المسدس، و يطمئن أهالي القرية أن الجميع سيذهب إلى بيته بأمان.
لا بد أن موظف وزارة الصحة في مقاطعة كويبيك متأثر بسخرية دانتي في “الكوميديا الإلهية”. فلا يرى أحدا من إيران جديرا بالعمل في مكان يتناسب مع قدرته، حتى لو كان مالكي. يرى أن نزوح أحدهم من إيران خطيئة بحد ذاتها، تستدعي المرور بعذاب “المُطهِّر”، قبل الصعود إلى الفردوس المسمى مونتريال. فلما أنهى مالكي تدريبه، لم تعرض عليه وظيفة سوى في جحيم شيكوتومي.
شيكوتومي مدينة على ملتقى نهرين، في الأصل كانت مجرد منطقة لقبيلة من الهنود الحمر (و كل المدن الكندية -في الأصل- كانت كذلك). نزح الفرنسيون إلى ملتقى النهرين و حصروا سكانها الأصليين في محمية متطرفة من نهر شيكوتومي. حينما كانت مليئة بالسكان الأصليين كانت مهملة و محدودة الخدمات، تعتمد على الحواضر الأخرى التي طورتها الحكومة الكندية. و لما تكاثر الفرنسيون و صاروا أغلبية و أقامت الحكومة لهم منصب عُمَديّة، أرادوا أن يجلبوا كل الخدمات الصحية. وهكذا، كانت المدينة جاهزة في الوقت الذي تخرّج به مالكي، لاستقبال جراح الدماغ الواحد و الوحيد بها. قضى مالكي في جحيم شيكوتومي- أو بالأحرى زمهرير شيكوتومي- ستة سنوات. يتحدث مالكي عن ربيع شيراز كثيرا، ولا أظنه اكتسب هذه العادة إلا من استعادة ذكرياته في زمهرير شيكوتومي. كان يغطي كل الحالات الجراحية: كل ساعات اليوم، كل أيام الأسبوع، كل أيام السنة. لا يُعطى من الراحة إلا شهرا في السنة، و نهاية أسبوع واحدة في الشهر. بإحدى نهايات الأسبوع المُجاز بها، التجأ مالكي و زوجه -التي عرفها أيام كلية طب طهران- إلى كوخ في أحد المنتجعات الثلجية البعيدة عن شوكوتومي ما يقرب الساعة و نصف. كان مالكي يجيد التزلج على الثلج، و من المؤكد أن فكرة الهرب من رجلي الشرطة، اللذين كانا يلاحقانه بأعلى المنزلق الثلجي على مزلاجاتهما، قد راودته. فربما ظن أن أيام لجوئه في كندا انتهت لسبب ما، و قد أتوا لأخذه حينما زعقوا باسمه. ركب مالكي باستسلام في المقعد الخلفي لسيارة الشرطة أمام أعين نزلاء المنتجع.
بعد ساعة من ضجيج صفارة الشرطة المسرعة، نزل مالكي من المقاعد الخلفية لسيارة الشرطة إلى مستشفى شيكوتومي، ليجري عملية على جمجمة شاب في غيبوبة بعد حادث. و عندما خرج، وجد رجلي الشرطة ينتظرانه ليعيداه إلى المنتجع. أعتقد أنهما لم يريدا أن يفوتا حكاية دورهما في إنقاذ الشاب على من كان في مطعم و حانة المنتجع تلك الليلة.
لا أعلم إن حصل ذلك أم لا، لكن يطيب لي تصور أن أحد زبائن المنتجع قد تطوع بدفع فاتورة عشاء مالكي و زوجته، دون أن يعلما.
عاد مالكي إلى مونتريال، جراحا و معلما. وفي غضون سنة، صار أعلى الجراحين دخلا في كويبيك، بفضل قدرته على تحمل الأعمال الشاقة التي اكتسبها في ”المطهر”. في ذات الوقت، كانت كندا تستقبل الكثير من المتدربين من الخليج و السعودية تحديدا. كان مالكي معلما ممتازا، ودودا، و الأهم أنه كان يبدو الوحيد الذي يشفق علينا في تلك المدينة الموحشة، و كأننا امتداد لغربة شبابه. و على عكس الخواجات، كل سنة كان يدعو الأطباء المغتربين إلى أحد المطاعم الإيرانية الفاخرة على حسابه. و لذلك كان ينتابنا الكثير من الفضول عنه. العجيب أنك حينما تحب شخصا تجد نفسك تحاول معرفة القصص الحقيقية عنه، و حينما تبغض شخصا تجد نفسك مستعدا لتأليف القصص المكذوبة عنه. كنا نتسائل بيننا إن كان يعرف العربية؟ عن قصة الإصبع المقطوعة؟ إن كان يصلي؟ و في أيام الثورة الخضراء في إيران -والتي كانت حدثا مهما في الإعلام الكندي- إن كان مع النظام أو ضده؟. خمن أحدنا، أن كل الإيرانيين الذي لجأوا في الثمانينيات، كانوا إما من أتباع الشاه، أو ممن لم يعجبهم الوضع من بعده. و قال أحدهم أنه رآه على السي إن إن يعبر عن تضامنه مع المتظاهرين (بحثت عن هذا اللقاء فيما بعد، فلم أجد سوى لقاءا له في قناة كندية يتحدث بالفرنسية، و كانت فرنسيتي ضعيفة تلك الأيام). أما أنا، فتطوعت لاستقصاء إن كان يصلي أم لا. فلقد كنت أعمل معه في تلك الفترة أثناء شهر رمضان، و بدأ يثق بي ليتركني في العمليات لوحدي. و بدلا من أن أُرسل له الممرضة لتخبره بانتهاء عملية واستعدادنا للعملية التالية، أذهب لأباغته بنفسي، علّي أراه يصلي في مكتبه. سألوني فيما بعد، قلت لهم: ربما مالكي يجمع الصلوات إلى نهاية نهار العمليات الطويل. و ما أخبرتهم أنني رأيته يأكل!
من السهل أن تعبر بمالكي دون أن تراه شيئا. لا يثير الدهشة إن لم تعرفه عن قرب، و لا يتحدث أمام الأضواء لتعرف حياته المليئة بالأحداث. إنه النحلة الأكثر عملا في المملكة، و في النهاية، يُجيّر العسل كله للملكة. يتحدث الجميع عن أثر مالكي في تدريبنا بمودة، إلا أن أحدا لا يعترف بذلك علنا. فلا مكاسب حقيقية من التزلف له، بل ربما يغيض ذلك أقرانه من أساتذتنا. في منتصف تدريبي، بعد رؤيتي الطريقة التي تقاعد بها أحد أساتذتنا دون توديع لائق من زملائه، عرفت أن مالكي ابن شيراز، الذي يتوسط جبهته خسف، سيغيب من ذاكرتهم بسرعة رفسة بغل. و قبل حفل التدريب السنوي الذي يحضره كل الأساتذة، خضت حملة بين الطلاب لإعطاء جائزة “معلّم العام” لمالكي. فاز مالكي بأغلبية، و جمعنا من أموالنا لنشتري له هدية لائقة، و كتمنا السر. و حينما حان وقت التكريم، صعدت المنصة و ألقيت كلمة أطريت بها مالكي، تحدثت بها عن السر الذي لا يعرفه مالكي: أن كل الطلاب يثنون على مالكي من ورائه، ولكن لا يعلنون ذلك. و قد حان وقت إذاعة السر ليسمعه مالكي أمام الجميع.
مالكي الذي لا يفوته الحفل على الإطلاق، لم يحضر التكريم و لم يسمع السر. لقد ماتت حماته تلك الليلة.
بعد شهر، عاد مالكي إلى العمل و عرف عن التكريم. لدي صورة لا أحب أن أنظر لها، نقف بها أنا و مالكي بهندام الجراحة المتعفر في زاوية رتيبة من المستشفى أقدم له الجائزة، مالكي بابتسامته الوضيئة و أنا بوجه بائس. كان مالكي سعيدا جدا بما سمعه عن ليلة التكريم، أما أنا فكنت أرى الليلة إحدى الرفسات التي اعتاد مالكي على تلقيها في حياته.
في آخر سنة تدريبية لي معه، طلب مني مالكي طلبا غريبا في نهاية يوم الجراحة. ثمة شامة بدأت تكبر في ساقه و تزعجه حينما يمشي. و يريدني أن استأصلها له. قلت له أن من الأفضل، عرضها على طبيب جلدية ليرسلها للمختبر، فقد تكون شيئا خطيرا. لم يسمع لي و لم يعطني فرصة، كان قد جهز غرفة الجراحة الفارغة -سرا- بمساعدة الممرضة، لم يرد أن يزعج نفسه بأية بيروقراطية أو توثيق، كما يقول. و هناك استأصلتها بعناية دون ترك أية بقايا، مفكرا بإخفاء الندبة بطريقة لا يظهر أثرها، كبراعة غازل السجاد. يعرف مالكي أنني كنت أقصد السرطان حينما قلت شيئا خطيرا. لكنه لا يبالي، لقد اعتاد على تلقي الرفسات في حياته. أما أنا و الممرضة، فلقد بحثنا عن رقم ملفه، و أرسلنا الشامة إلى المختبر دون علمه. و لمدة أسبوعين، ظللت في قلق من أن يخسر مالكي حياته في الغربة -أو ربما أخسره أنا في الغربة- حتى اكتشفت أن النتيجة حميدة.
لمالكي جاذبية عجيبة لإصابات الجبهة الغريبة، أكسبته خبرة وثقة و جرأة في العمليات. لا أصدق أن مالكي لا يعرق منذ أن رفسه البغل، مالكي لا يعرق لأنه لا يخاف.
مرة، جاءه رجل بمسمار مغروس بجبهته، أطلق على رأسه مسدس المسامير لأنه: “لم يتحمل الصداع!”. من بعد أن انتزع مالكي المسمار من دماغه، لم يعد يشتكي من الصداع.
مرة، طعنت فتاة رفيقها بمفك براغي في جبهته. كان في غيبوبة، و مالكي أجرى عليه عملية و نجى. تقول أمه، أنه رجع تماما كما كان، إلا أنه صار يحب لعب الشطرنج التي لم يكن يلعبها قط، و أنها تريد علاجا يوقفه عن لعب الشطرنج.
و مرة أتانا بالعيادة رجل بندبة في جبهته، يقول أنه اكتسبها من قتال في حانة بعقب زجاجة البيرة المكسور، و أن طبيبا في عيادة صغيرة نظف الجرح و أغلقه. كان ذلك قبل شهر من زيارة العيادة، و قد أتى الآن بسبب نوبات الصرع التي تطرحه.
لا يمكن التعويل على أي شيء يقوله هذا الرجل المشاغب، يكفي أن تنظر لأنفه المدكوك و المعقوف، لتعرف أنه كثير الشجارات و المشاكل. كما أن له لكنة إيطالية في لغته الفرنسية تذكرني بالرجال المشبوهين في حي إيطاليا الصغرى. حينما أجرينا العملية له، و جدنا تحت الندبة رأس سكين ضخمة مغروسة في دماغه، و ما تبقى من السكين مقطوع بحد ناعم على مستوى الجمجمة كي لا يترك أثرا من الخارج.
جاءنا الرجل بعد شهر للعيادة مع أمه. كان سعيدا، يقول أن الصرع اختفى. و أنه استطاع العودة للعمل في مطعم أمه. أمه التي لا تتكلم سوى الإيطالية جاءت بهدية لمالكي و لي. وشاحين من الصوف، حاكتهما بنفسها. أخبرنا ابنها أنها تصر أن نزور مطعمها بإيطاليا الصغرى، فسنذوق به أفضل بيتزا و باستا. صحيح أنها تقضي وقتها بالمطعم بالحياكة و الخياطة، و لكنها تشرف على كل طبق بنفسها و كأنها طبخته. في تلك اللحظة، نظرنا أنا ومالكي لبعضنا بابتسامة، و فكرنا بذات الشيء في ذات الوقت:
دخل الابن إلى المطعم من الحجرة الخلفية ليلا، و في جبهته سكين مغروسة. ابن عمه الحداد، قص السكين على حد العظم (من الصعب تخيل الألم أو الشرار الذي نتج من ذلك، و لكن لنفترض أن الكثير منه حصل). ثم جاءت الأم لتحيك الجرح، ببراعة غازل سجاد شيرازي.
لن أقول إذا أجبنا الدعوة أنا و مالكي أم لا. كل ما أقدر على قوله، أن من الأفضل لأحدهم أن يكون في الجانب الحسن من المافيا.
طارق الجارد، ٢٤ أغسطس ٢٠٢٠، الرياض